ترجمة: أحمد عثمان
في مهرجان ميلانو، أحد أهم المهرجانات الثقافية الإيطالية، يدعى كل عام عشرات الأسماء الشهيرة في عوالم الموسيقى، الفلسفة، الأدب، الفنون، التقنيات والعلوم. من عام 2000 إلى عام 2015، كان الروائي أمبرتو إيكو حاضراً دوماً، يلقي نصوصه أمام جمع حاشد.
وصدرت هذه النصوص (12 نصاً) في كتاب بعنوان: «على أكتاف العمالقة»، ألقاها إيكو خلال خمسة عشر عاماً في المهرجان، وهي تحمل «هواجسه» التي تتأتى كما اللازمة الموسيقية في كل كتاباته: العلاقة بين الحداثة والأصالة، القرون الوسطى، جمالية توما الاكويني، العلامات والتأويل، تشارلز ساندرز بيرس وجيمس جويس، خيال الحقيقة وحقيقة الخيال، الفن، الجمال والقبح، الخطأ، الكذب، فينومينولوجيا المؤامرة.
ويمنح هذا الكتاب، الذي نجد في متنه خليطاً مألوفاً من المعرفة، الحمية والدعابة، القارئ مدخلاً طيباً لمجمل نتاج إيكو. ومن الممكن قراءته حسب أي نسق؛ الانتصار الشعبوي الحالي «للأخبار الزائفة» يبدأ مع نصه: «قول الخطأ، الكذب، التزييف». ويمكن أن نختار «الشعلة جميلة»، وهو نص غير متوقع من إيكو، مكرس عن النار، يرد فيه إلى غاستون باشلار أحقيته في تهيئة النار «كشعر، ميثولوجيا، بسيكولوجيا وتحليل نفسي». يدرك الكتاب أسئلة أخرى كلها تترجم معرفة كيف تتحصل النصوص والصور على معناها، بما في ذلك استعارته لمتاهات السخرية أو المحاكاة، وكيف يصل الجمال إلى النتاجات عندما يتعلق الأمر بتوضيح اللامرئي أو ملاحقة التغيرات التي تضع القبح في «مرتبة المنفر، العاصفة، الخرائب».
النص الأول الذي منح للكتاب عنوانه جذاب؛ هنا يهتم إيكو بمثال الأقزام والعمالقة، الذي ترجع أبوته إلى برنار دو شارل، الفيلسوف الأفلاطوني الذي عاش خلال القرن الثاني عشر، والذي سوف يستعيده الكثير من الفلاسفة والشعراء في ما بعد. كتب برنار: «نحن مثل الأقزام واقفين على أكتاف العمالقة، بحيث نرى أبعد منهم، ليس فقط بسبب طولنا أو نفاذ نظرنا، وإنما لأننا أطول منهم، لوقوفنا على أكتافهم». هل يمكن القول إن الأقزام سجناء العمالقة، إذ من دونهم لن يروا شيئاً، أو أنهم مدينون بكل شيء لهم لأنهم يرون أفضل وأبعد؟
للإجابة، لابد من إسناد «هوية» لكل منهم: إنهم القدماء والحديثون، الكلاسيكيون والمجددون، اللغات الأم واللغات المحلية، الآباء والأبناء، الأجيال، الماضي والحاضر، الثقافات والحضارات، التيارات الفنية، العوالم السردية، النظريات العلمية التي تتطور وتجتاز كل منها الأخرى، متكئة على سابقتها. «من الصراع الألفي» بين الآباء، الأمهات والأبناء مروراً بكل «الابتكارات» في مجالات الفلسفة، المنطق، علم الجمال، الأدب، يقوم إيكو بتحليل كل ما يعني «الوقوف على أكتاف العمالقة»، ويسائل مفهوم التطور نفسه، ويصل إلى نتيجة مفادها أنه غير متأكد من أن اختفاء «الإرجاع» إلى الماضي والتعايش في الوقت الحاضر لكافة النماذج أمراً طيباً: الخطر أن يكون الأقزام واقفين على أكتاف أقزام!.